مشهد غريب نعيشه اليوم، لم نكن يوما نتخيل ان نعيشه ، العالم كله في حالة خوف وترقب وقلق من انتشار هذا الفيروس العجيب ، فيروس كورونا أو كوفيد 19 الذي تحول إلى جائحة تهاجم العالم كله بلا رحمة، هل فعلًا نجح أصغر مخلوقات الله في أن يجعل أكثر من ثلث سكان العالم يلازمون بيوتهم مجبرين ؟، إنها الحقيقة للأسف .
هذا المشهد لا شك أنه أثر بشكل كبير في حالتنا النفسية، لأن الكل -بطبيعة الحال- قلق لمستقبل العالم والأوطان، قلق على صحته وصحة أهله وأسرته، ناهيك عن قلقه على مصدر رزقه ومستقبل عمله نظرًا لحالة التوقف التام والشلل لكثير من القطاعات .
هذه الحالة النفسية الذي استطاع هذا العدو الخفي أن يؤطرنا فيها هي سلاحه الأقوى لمهاجمتنا، لأنه من المعروف علميًا وطبيًا أن أي اجهاد وضغط عصبي أو نفسي أو جسدي يؤثر بشكل مباشر وسلبي على جهازنا المناعي وقدرتنا على مقاومة المرض . من أجل هذا يجب علينا أن لا نستستلم أبدا لهذه الحالة ، ويجب أن نجد طريقة لرفع حالتنا المعنوية ، ونثق بأننا سوف نتغلب على ها الوباء قريبًا ، وبأقل خسائر بإذن الله تعالى .
لذا اسمحوا لي أن اكتب لكم عن أحد الهدايا الربانية التي ستساعدنا حتما على تحقيق غايتنا هذه في قهر الوباء وتحسين حالتنا النفسية وقدرتنا على مقاومة هذا الشر الخفي. هذه الهدية هي واحدة من قصار السور في القرآن الكريم وتحديدًا سورة الفلق .
من الموضوعات اللي شغلت تفكيري بشدة خلال دراستي للقرآن الكريم هو موضوع قصار السور. كنت أتسائل دائمًا وأحاول أن أفهم حكمة الله الخفية في أن تكون إحدى سور المصحف ثلاث آيات مثلا كسورة الكوثر ، وسورة أخرى آياتها 286 آية كسورة البقرة ، لماذا لم تكن هذه الآيات الخمس لسورة الفلق مثلًا جزءأً من سورة أخرى أكبر؟ لماذا أفرد الله وخصص لها مكانًا خاصًا في كتابه الكريم؟ ، ولماذا سميت السورة سورة وليس فصل أو فقرة أو باب أو غيرها من المصطلحات ؟ ما وجدته كان عظيمًا ، لقد أيقنت أن كل سورة في القرآن الكريم هي موضوع متكامل ومغلق، كل سورة تطرح وتناقش وتؤطر لموضوع محدد بعينه، هذا الموضوع ينساب متدفقًا من بداية السورة حتى نهايتها ، وجاءت قصار الصور كرسائل مركزة ، وملخصات إعجازية في نهاية المصحف لمواضيع محددة ومعاني دقيقة جدا .
اليوم ولعلاقتها المباشرة بما نعيشه، تعالوا نحاول نتفكر ونتدبر واحدة من هذه قصار السور، وهي سورة الفلق . السورة عدد آياتها خمس آيات ورقمها 113 أي أنها قبل الأخيرة في المصحف . وعندي مجموعة من الأسئلة التي سأحاول أن أتفكر فيها معكم : ما علاقة سورة الفلق بما نعيشه اليوم وانتشار الوباء؟ ما هو الفلق؟ لماذا نستعيذ برب الفلق وليس اله الفلق ؟ ماذا قد ينتج عن هذا الفلق؟ من الغاسق؟ ما معنى وقب؟ كيف يوقب الغاسق؟ ما هم النفاثات؟ ما هي العقد؟ ما الفرق بين نفخ و نفث؟ هل الحسد هو العين؟ ولماذا قال الله "إذا حسد “؟ ، ولماذا هذا الترتيب؟ .
بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ : ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5) ﴾
تعالوا نحاول أن نفهم أولا ما هو الفلق ؟ وبعد ذلك نحاول أن نفهم لماذا أمرنا الله بالاستعاذة هنا؟
قال كثير من المفسرين بأن الفلق هو: "الصبح إذا انفلق من ظلمة الليل " وقال بعضهم" الفلق هو الأنهار لأنها مفلوقة الأرض. وهو من الفَلق بمعنى الشق". هنا أريد أن أوضح بدايةً أنه ليس معنى أنني أحاول أن أجد تفسيرًا آخر أنني أشكك فيما قالوا أو وصلوا إليه ، لكن التدبر في آيات الله واجب علينا جميعًا ، وليس هناك من يستطيع أن يدعي بأنه قد وصل الى مراد الله النهائي أو بشكل قطعي في أي من آيات الكتاب الكريم، فكما قال الله في قرآنه " وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه "، لذا تعالوا ندقق أكثر في معنى "الفلق" ، يقال فلق الفلق أي شَقَ الشيء وأبانه بعضه عن بعض. ويقال: فلقته فانفلق ، و"شق الشيء الى نصفين"، والمثير هو قولهم بأن النصفين يكونوا متماثلين، وهو ليس "كسرًا" لأن الكسر من الممكن أن ينتج شظايا وأجزاء كثيرة وغير متساوية.
ومن هنا نفهم أيات أخرى مثل ﴿ إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ ﴾ [الأنعام/ 95]، أي يفلق الحبة الى نصفين متماثلين ، وعن قصة نبي الله موسى عليه السلام عندما ضرب بعصاه البحر ﴿ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴾ [الشعراء/63 ، أي الى نصفين، إذن من هذا كيف نفهم الفلق، ولماذا خصص الله سورة كاملة للحديث عنه؟
ببساطة شديدة الفلق هو سر وجود البشرية، وسر وجود جميع الكائنات الحية ، تبدأ الخلية المخصبة فى الانقسام (الانفلاق) لإنتاج خليتين متماثلتين تمامًا ، ثم تنفلق كل خلية بدورها لإنتاج خليتين في متوالية هندسية سريعة تنتهي بتكوين جنين كامل يخرج طفلا الى الوجود ، وهذا ما يحدث في كل المخلوقات ، حتى الخلايا النباتية أيضا تنقسم (تنفلق) للسماح بنمو النبات وتكوين الثمار والأوراق، وهذا اختيار اعجازي من الله سبحانه وتعالى للفظ القرآني، حيث لا يمكن أن يؤدي لفظ آخر المعنى الذي قد يكون الله أراده هنا لتصف عملية الإنقسام والإنفلاق الخلوي تلك.
وعملية الانقسام هذه ليست منتهية ، بل تستمر داخلنا ليل نهار لتعويض الخلايا الميتة والنمو وإنتاج ما يلزم للقيام بكل الوظائف الحيوية . إذًا الموضوع محوري وهام بشكل لا نقاش فيه، فهو سر وجودنا ووجود كل المخلوقات، وهذا أقرب الى اقناعنا لماذا انفرد هذا الموضوع بسورة كاملة في كتاب الله. فسبحان الله رب هذا الفلق ومخططه ومنفذه .
لكن لماذا أمرنا الله بالاستعاذة برب الفلق؟ الحقيقة أنه برغم أن هذا الفلق هو سبب وجودنا و بقائنا، إلا أنه قد يكون أيضًا سببا في هلاكنا، لأن هذا الفلق يصنع الكثير من الشرور الخفية، مثلا ينتج السرطان بسبب هذا الفلق، فالخلايا السرطانية، تتكاثر بالانقسام بسرعة شديدة وتنتج الأورام السرطانية. وكذلك الفيروسات والبكتيريا والجراثيم والميكروبات بأنواعها أيضًا تحتاج هذا الفلق لتتكاثر وتنتشر وتنمو، وهذا يجعل ارتباطًا وثيقًا بما نعيشه الآن ، من انتشار رهيب لهذا الوباء اللعين .
لهذا قال الله تعالى : ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) ﴾ ، التي أفهمها : أطلب من الله العون والحماية، لأنه لا ملجأ لك من شر ما ينتج عن هذا الفلق غير طلب الاستعاذة برب الفلق، والرب هو المالك والمتصرف والآمر الناهي في ملكوته، لذلك قال الله تعالى "رب الفلق" ، لأنه الوحيد من يملك ويسيطر، ولا حيلة لنا للنجاة من أخطار هذا الفلق إلا بطلب العون والاستعاذة برب هذا الفلق .
الآن نأتي الى ثالث آيات هذه السورة الإعجازية ﴿ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) ﴾ من هو الغاسق وما معنى اذا وقب ؟ ، فسر كثير من المفسرون الغاسق بأنه الليل ، وإذا وقب أي إذا دخل أو اشتدت ظلمته وغاب شفقه، أو القمر إذا اختفى أو خسف . وتقول العرب "غسقت العين" أي أظلمت أو عميت، وهذا معنى أراه شديد الصلة بما نتحدث عنه ـ اذا يكون معنى غسق هنا هو: تخفى حتى لا تراه ، وغسق الليل، أي ظلمته واخفاؤه لكل شيء، والغاسق يكون هو المتخفي المستتر. ما هذا الإعجاز ؟ هل نحن نرى خلايا السرطان تنفلق وتتكاثر بداخلنا ؟ هل نرى الجراثيم والميكروبات ونحن نستنشقها حين نتنفس؟ أو نبتلع الملايين منها في طعامنا كل يوم، هل نراها تتكاثر بداخلنا. الحقيقة أن كل هذه الشرور هي غاسقة ومتخفية ومستترة .
وقالوا "إذا وقب" يعني اذا اظلم، والليل إذا وقب يعني إذا "دخل وانتشر"، وقال بعضهم "إذا استحكم" ، وهذا هو المعنى الدقيق الذي نبحث عنه، فيكون معنى الآية حسب فهمنا: استعيذ بك يا رب الفلق من شر ما يخلق هذا الفلق إذا دخل وانتشر واستحكم في أجسادنا .
نأتي الى ﴿ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) ﴾، قالوا بأن النفاثات في العقد هن السواحر من النساء الّلاتي ينفُثن في عُقَد الخيط، حين يَرْقِين عليها. لكني لا أجد سببًا مقنعا إذا كان هذا هو المراد أن تأتي مؤنثة في الآية ، وكان من الأولى أن تكون النفاثون في العقد لتشمل النساء والرجال، وليس قصر الفعل على النساء، لأن السحر ليس مقصورًا على النساء، ولماذا قال النفاثات وليس النفاخات فهم ينفخون في عقدهم ولا ينفثون وللنفث معنى آخر سنناقشه بعد أن نتفكر في معنى العقد .
من المعلوم اليوم طبيًا أن الجهاز الليمفاوي (lymphatic system) منتشر في جميع أجزاء الجسم مثل الجهاز الدوري تماما، ويتكون من: الأوعية الليمفاوية، والعقد الليمفاوية، والخلايا الليمفاوية ، والطحال (وهو عقدة ليمفية كبيرة) يشترك مع العقد الليمفاوية الأخرى في تكوين الخلايا الليمفاوية وبعض خلايا الدم البيضاء الأخرى. العقد الليمفاوية: إذن هي جزء رئيس من الجهاز الليمفاوي وتعمل مثل المرشحات الميكانيكية. وظيفة هذه المرشحات هي قتل والقضاء على الميكروبات الموجودة في مجرى الدم. يتم إنتاج خلايا الدم البيضاء أو الخلايا الليمفاوية من قبل الغدد الليمفاوية. ومن ناحية أخرى، تقتل كرات الدم البيضاء البكتيريا والفيروسات التي تدخل الجسم. تنتشر هذه العقد الليمفاوية في الجسم بعدد كبير جدا من 450 الى 650 عقدة ليمفاوية وظيفتها الأهم هي الهجوم على الفيروسات والبكتيريا والميكروبات الأخرى التي تهاجم الجسم ، كذلك مهاجمة ومحاصرة الخلايا السرطانية.
تعالوا الى الإعجاز في تنفث وليست تنفخ. البكتيريا والجراثيم تنفث السموم داخل الجسم ولا تنفخها، ولكي تتكاثر تقوم الفيروسات بنفث الشريط الوراثي لها والتحكم التام في الخلية الحية وتسخيرها لإنتاج نسخ جديدة من الفيروسات. سبحان الله، إذن النفث يكون للسموم حصرًا ، ويجب علينا فعلا أن نستعيذ بالله من هذه الكائنات النفاثات في عقدنا وأجهزة مناعتنا.
أربع آيات حتى الآن تتحدث عن أكبر خطر خفي يداهمنا ونحن لا نراه ، وهذا الخطر الذي يقضي يوميًا على آلاف البشر ما بين فيروس وسرطان وبكتيريات وغيرها ، وأراد الله بأن يختم هذه السورة بأن يقول لنا أن هناك خطر آخر خفي لا نشعر به ومن الصعب جدا علينا اكتشافه، وهو أن يحسدنا حاسد ، لكن ما هو الحسد ؟
هناك الكثيرون ممن يؤمنون بالعين، ويستشهدون بهذه الآيه ويقولون أن هذا هو الحسد وأن الحسد مذكور في القرآن، مثلا عندما ينظر شخص الى شخص آخر عنده مال أو سلطة أو صحة أو غير ذلك ، فيصيبه بضرر سريع من مجرد نظره اليه يقولون حسده فلان وهذا هو الحسد، لكن دعونا نعرف معنى الحسد هنا وفي آيات كثيرة من القرآن، وأن نفرق بينه وبين العين، فالحسد حصرًا هو أن يتمنى أحد زوال النعمة عنك، ويراقبك باستمرار، ويغتاظ من تمتعك بهذه النعمة.
وردت كلمة حسد 4 مرات في القرآن كلها بهذا المعني، ففي سورة البقرة مثلا ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ۖ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (109)، فهنا النعمة التي يتمنون زوالها هي الإيمان ، ويتمنى الحاسد زوال هذه النعمة ﴿ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا﴾ " لذا قال الله تعالى ﴿حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم﴾ . إذًا الحسد موجود ، وثابت وروده في القرآن، ومتحقق وطبيعة بشرية، ويكمن من ورائها شرور خفية.
حتى الآن أن يحسدك حاسد هذا شر متوقع وليس شر واقع، متى يتحول الى شر حقيقي، قال الله ﴿إذا حسد﴾ ، أي متى بدأ هذا الحاسد في التخطيط والتنفيذ لإيذائك ومحاولة سلب النعمة منك فعليًا، لذا قال الله ﴿ومن شر حاسد ﴾، متى ؟ ﴿إذا حسد﴾، وربط الله تعالى في بلاغة إعجازية شديدة هنا مؤامرات ومكائد الحاسدين في نفس السياق مع شرور الكائنات التي لا نراها وتعيش في اجسادنا، كأنه يقول للإنسان ، يجب عليك أن تستعيذ برب الفلق من جميع الشرور التي قد تنجم عن هذا الفلق اذا دخلت وانتشرت واستحكمت ونفثت سمومها في جهازك المناعي، احترس من هذا كاحتراسك ممن يحسدونك ويتأمرون عليك سرا . ففي كلتا الحالتين أنت لا ترى الشر الخفي لتدافع عن نفسك ، لذا لن يحميك منه الا أن تستعيذ وتطلب الحماية من الله رب كل هذا والقاهر فوقه والمتحكم في مقاليد الأمور جميعها .
اذن سورة الفلق تلخص بإعجاز شديد مجموعة من الشرور الخفية المحورية في حياتنا وكيف نقي أنفسنا شر هذه الشرور. حفظكم الله وايانا ، اقرأوا بتدبر وبثقة ويقين سورة الفلق كل يوم عسى الله أن يصرف عنا هذا الوباء، وينجينا من كل الشرور الخفية التي لا نراها ولا نملك شيء لدفعها الا أن نستعيذ من شرورها بخالقنا وخالقها .
المصدر : صدي البلد