تأتي الأزمات لتجعل التيارات الفكرية تصطرع في المجتمعات اصطراعا، فكل فريق يظن أن الظروف مواتية لكي يؤكد فكره، وينشر آراءه، وهذا أمر طبيعي، حيث إن كل تيار يؤمن بأفكاره، وإلا كان مخادعا، وحيث إن كل فرد يعتقد في صواب الفريق الذي ينتمي إليه.
إن المجتمعات الحية هي تلك التي تتشابك فيها التيارات الفكرية، وتعتمل فيها، وتختمر الأفكار لتتحول إلى رؤى، ومن ثم مشاريع قابلة لتصبح قاطرة لحياة تلك الأمم الحية، تدفعها إلى الأمام وتأخذ بيدها إلى التقدم، وتحيى بها في أفنان من العلم والتقدم.
وعلى العكس من ذلك فإن مجتمعات الأشباح والموتى، تظل تدور في أفكارها البالية، وتظل تقدس معتقداتها البائسة، وتبقى تمجد أفعالها الساذجة، وتستمر تسبح أعمالها التي لا تسمن من جوع.
ففي الوقت الذي ضرب العالم فيه ڤيروس كورونا، أخذ العالم الغربي، الذي تصطرع فيه الأفكار اصطراعا، وتتبارى فيه العقول تباريا، لسد تلك الثغرات التي كشفتها أزمة الڤيروس، وإصلاح هذا الخلل الذي أظهره التعامل مع أزمة عالمية، لم يشهد لها العالم مثيلا، منذ الحرب العالمية الثانية، أخذ هذا العالم الغربي العمل على جميع أصعدة الحياة لصنع علاقات جديدة، وإيجاد وسائل جديدة، بل وابتكار -وهذا هو الأهم- حياة جديدة.
وفي ذات الأزمة وجدنا أنظار مجتمعاتنا العربية، وأبصار أمتنا الإسبانية مصوبة نحو تلك المجتمعات الحية، ليس لتنظر ما فيها من حراك، ولا لترى ما فيها من تسابق، ولا لتبصر ما فيها من التزام، بل لتتصيد سقطة هنا وأخرى هناك، وتعمل العدسة المكبرة عندنا على تضخيم كل نقيصة، وعلى تسليط الضوء على كل فعل سلبي، ورسم صورة مزيفة، ليس لها من هدف سوى أحد أمرين: الأول الشماتة في هؤلاء القوم الذين هم عند الغالبية الساحقة من بني جلدتنا أعداء في الإنسانية، الثاني هو تصدير فكرة أن ها هو العالم الغربي يتحلل ويتفسخ وينهار.
وكلا الأمرين ليس من الحق والحقيقة في شيء، فالأول لا يليق – بمن يزعمون الخلق الكريم – حتى مع الأعداء، خاصة وأن الأزمة عالمية، لم ينج منها شعب دون شعب، ولم تفز فيها أمة دون أمة، فالمصيبة تحل بالجميع، والكارثة يقاسيها الجميع، والإصابات تطول الجميع، والموت يحصد من الجميع. أما الثاني فهو أشبه بالفقاعة التي ما تلبث أن تحتك بالهواء فتتلاشى، وكأن شيئا لم يكن، فما يجمع هؤلاء القوم "الغربيين" أكثر مما يفرقهم بمرات عديدة، بالإضافة لأنهم يعلون من قيمتي: العقل والمصلحة، هاتان القيمتان اللتان تضمنان لهم التماسك والاتحاد بل والتلاحم.
وهنا يلح سؤال إلحاحا: ماذا لو كان هذا التصور -الذي هو أقرب للسذاجة- صحيحا؟ بمعنى آخر ماذا سيفيدنا هذا الانهيار للعالم الغربي إن تم؟ بل هل هناك فائدة أية فائدة حقا يمكن أن تعود علينا؟ إن الإجابة عندي هي النفي بكل تأكيد، بل ربما يكون في انهيار العالم الغربي ضرر واقع علينا، بل الأكيد أن هناك ضررا واقع علينا حال انهيار العالم الغربي لا محالة.
إذًا الأمر لدى قطاع كبير منا ليس أكثر من حقد دفين على هؤلاء القوم، هذا الحقد -على سوئه- ربما أجد له تبريرا عند البسطاء من بني جلدتنا، ولكنني أعيى كثيرا في تفسيره لدى طبقة المثقفين، خاصة، وأن والحال كذلك، فإننا لا يمكن بحال أن نكون البديل عن هذا العالم الغربي، فبيننا وبين العصر الحديث حقب زمنية طويلة، فالبديل إذًا قوم آخرون غيرنا، لا يمتلكون من القيم ما يمتلكه هذا الغرب، على ما فيه من علل.
ولكي نتعرف على ذلك البون الشاسع بيننا وبين المجتمعات الحية، تعالوا نتأمل مفهوم المساهمة والمشاركة في مثل هكذا أزمة تهز العالم كله، بل تزلزله زلزلة، هذا الذي جعل فريق غيور من مجتمعنا يثير الحمية في النفوس بهدف دفع المجتمع دفعا لإعلاء قيم التعليم والعلم والبحث العلمي، حيث أن ذلك فقط الطريق الذي علينا أن نسيره، لا لنلحق بهذه الأمم التي سبقتنا بأشواط، فهذا غير ممكن في المستقبل المنظور، بل لنضع الأسس الصلبة الحقيقية لهذا البناء الذي يعلو ويتراكم بمرور الوقت، وانقضاء السنين في جد واجتهاد وعمل مضن.
فإذا بالراحة الخادعة تأتينا، وإذا بالرضا الخانع يلبسنا، وإذا بالمشاركة الوهمية تقنع هؤلاء البسطاء، وذلك من خلال ڤيديو يتداول لشيخ يذكر فيه ما كان قد تداول في منشور على موقع التواصل الاجتماعي الأشهر "فيسبوك" يُعَدِّد دور العرب والمسلمين في مكافحة ڤيروس كورونا، والذي كان على هيئة تبرع رئيس شركة ومن خلال مساهمة طبيب مسلم أو مشاركة طبيبة مسلمة في بحث في دولة من دول العالم الغربي المتقدم علميا، ويعتبر ذلك ردا على "العلمانيين" الذين يعايرون المسلمين من أن لا دور لهم في مكافحة ڤيروس كورونا سوى التوجه بالدعاء لله سبحانه وتعالى، هذا الذي لم يرفضه شخص، فضلا عن وصفه بالعاقل.
إذا كان هذا هو الدور الذي تفتخر به، وهذه هي المساهمة العلمية التي يمكن أن تشارك بها أمة عددها مليار ونصف من البشر، وتمتلك من الثروات ما ليس عند غيرها، فهذا عينه هو الخنوع، وذلك نفسه هو الفشل، وذاك ذاته هو تغييب العقل والجهل المركب.
حينما يطالب العقلاء الغيورون -الذين وصفهم الشيخ في الفيديو والمنشور قبله بالعلمانيين الملاحدة- هذه الأمة بأن يكون لها دور وأن تسهم بسهم علمي حضاري، فليس تلك التفاهات التي تذكرون لتخدعوا بها البسطاء هي الأمل المنشود، إن المطلوب -الذي يسعى له هؤلاء المطالبين بدور للعرب والمسلمين بالحث عليه- هو أن يكون لدينا بحث علمي رصين، وأن يكون عندنا مراكز علمية حقيقية، نفيد من خلالها أنفسنا والبشرية وننطلق من خلالها إلى آفاق غير مسبوقة في مجالات الحياة كافة.
وأن نتخذ من العلم منهج حياة، وأن تكون ميزانية التعليم والبحث العلمي أضعاف مضاعفة مما هي عليه الآن، وأن يكون هناك اهتمام ورعاية بالعلماء والباحثين، وأن يتم توفير البيئة الملائمة لهم، وأن يصبحوا في المقدمة من الناحية الاجتماعية.
ليس هكذا تقاس الأمور أيها الشيخ، ولا هكذا تكون المساهمة.
المصدر : صدي البلد