رحال في رحاب رمال الربع الخالي
بقلم: [محمد الصيعري ابو عامر]
—
حين تُلامس قدماي رمال الربع الخالي، أشعر وكأنني أخطو على حدود الزمن نفسه. هنا، حيث تمتد الصحاري بلا نهاية، وتتلاطم الكثبان الذهبية كأمواج محبوسة في لحظة تجمد ساحرة، أجد نفسي غارقاً في حوار صامت مع الأرض والسماء. إنها رحلة إلى صميم الوجود، حيث يذوب الإنسان في مواجهة عظمة الطبيعة، ويُدرك ضآلته أمام سطوة الجغرافيا التي لا ترحم.
—
### **الربع الخالي: مَلكوت الرمال والسكوت**
الربع الخالي ليس مجرد صحراء، بل هو عالمٌ موازٍ. بمساحته التي تزيد عن ثمان الاف كيلومتر مربع، يمتد عبر أربع دول عربية (السعودية، عُمان، الإمارات، اليمن)، ليصبح أكبر صحراء رملية على وجه الأرض. لكن الأرقام لا تُجدي هنا، فسرُّ جماله يكمن في تناقضاته: رمالٌ ناعمة كالحرير تتحول إلى جحيمٍ قاتل تحت شمس الظهيرة، وسماءٌ صافية ليلاً تروي حكايات النجوم التي تُضاء كشموس لا تُحصى، ورياحٌ تعزف على أوتار الكثبان نغماتٍ تتغير مع كل فجر.
—
### **رحلتي: بين التيه والاكتشاف**
في هذه البقعة النائية، حيث لا ظل إلا ظلي، ولا صوت إلا همس الريح، تتحول الرحلة إلى اختبارٍ للروح. حملت على ظهر سيارتي الاند كلوزر ما يكفي من الماء والتمور، ووثقت ببوصلة تقليدية وبقلبٍ وثاب. لم تكن الرحلة سهلة؛ فالطقس قاسٍ، والرمال تخفي تحتها أسراراً ومخاطر. لكن في كل خطوة، كان الربع الخالي يُكافئني بمناظرَ تسلب العقل: كثبانٌ عملاقة تُلامس السحاب، وألوان الرمال التي تتدرج من الذهبي إلى الأحمر القاني مع غروب الشمس، وآثار حيواناتٍ نادرة تكيفت مع القحط، مثل ظبي الإدمي والثعالب الرملية.
—
### **أثر الأقدمين: حكايات من تحت الرمال**
ليست هذه الصحراء خاليةً كما يُظن. فتحت طبقات رمالها، تكمن شواهد على حضاراتٍ اندثرت. عثرت على قطع فخارية متناثرة، ربما تعود إلى قافلة تجارية ضاعت قبل قرون، أو نقوش صخرية تُجسد حياة البدو الذين سكنوا هذه الأرض ذات يوم. هنا، يتجلى إرث الإنسان الذي تحدى الصحراء وارتقى بفن البقاء: طرق تخزين الماء في قِرب الجلد، استخدام النجوم كخريطة، وحكمة التعايش مع البيئة دون استنزافها.
—
### **الربع الخالي اليوم: بين التحديات والأمل**
اليوم، لم يعد الربع الخالي بعيداً عن بصمة الحداثة. تنتشر فيه منصات النفط، وتقطع طائرات الهليكوبتر سماءه، وتُنظم رحلات السفاري السياحية. لكن هذا التقدم يأتي بثمن: فالتلوث واستنزاف الموائد المائية الجوفية يهددان توازنه الهش. ومع ذلك، هناك بصيص أمل في مبادرات الحفاظ على البيئة، مثل إنشاء محميات طبيعية ومشاريع لإعادة توطين الحيوانات المهددة بالانقراض.
—
### **خاتمة: درس الرمال**
الربع الخالي ليس مكاناً للضعفاء. إنه مدرسةٌ تعلّمك التواضع: فمهما بلغت قوتك، ستظل الرمال أقدر على الصبر. هنا، تتعلم أن الحياة ليست مساراً مستقيماً، بل سلسلة من التلال والمنخفضات، تماماً مثل الكثبان. وفي صمت الصحراء المدوي، تجد إجاباتٍ عن أسئلة لم تكن تعرف أنك حملتها في روحك.
أنا رحالٌ في الربع الخالي، أكتب قصيدتي على صفحة الرمال، عالماً أن الريح ستمحوها غداً… لكن الروح ستذكرها إلى الأبد.
—
*”في الصحراء تُكتشف قيمة الماء، وقيمة الإنسان، وقيمة اللحظة الواحدة.”*