قالت القسيسة نجلا قصاب، مديرة دائرة التربية المسيحية في السينودس الإنجيلي الوطني في سورية ولبنان، رئيسة الشركة العالمية للكنائس المُصلحة، نحن اليوم في بداية أسبوع الآلام، حيث نتأمل بخطوات يسوع قبل الصلب، وحدثي الصلب والقيامة. هذا الأسبوع له نكهته الخاصة في الشرق، لان الألم والمعاناة هي جزء من هويتنتا. فبعضنا ولد في ظروف الحرب، وتربّى على مواجهة الألم.
وأضافت "قصاب" خلال المقال المنشور لها صباح اليوم الاثنين، على موقع الرسمي للنشرة (المجلة الإنجيلية الجامعة)، لكن اختبار الألم في زمن تفشي مرض الكورونا، له وقع مختلف عن كل ما عانيناه في الماضي. أتساءل في نفسي، ما هو الاختلاف في ألمنا اليوم؟ ولماذا تبدو معاناتنا أصعب من كل ما مرّ علينا على جلجثة الآلام ؟
قصة المراة ساكبة الطيب، المراة التي سكبت قارورة ” ناردين خالص كثير الثمن” على أرجل يسوع، هي إحدى الوقفات التي نتأمل بها في اسبوع الالام، لأن يسوع رأى ما قامت به تحضيرًا للأحداث القادمة: “دَهَنَتْ بِالطِّيبِ جَسَدِي لِلتَّكْفِينِ”. في هذه القصة نرى موقفًا غريبًا ليسوع.فقد رأى يسوع أن يسكب الطيب على رجليه، أهم من أن يعطى للفقراء، وهو عمل حسن وليس فيه تلف. لقد قلب يسوع في موقفه هذا مفاهيم وتعاليم عدة، وفاجأ تلاميذه. على طريق الصلب طرح يسوع سؤالًا حول ما هو الأهم وقت الألم. وكأنّ يسوع يقول لتلاميذه وقد قرب موعد انتهاء مهمته على الأرض، أنّ الدروس التي تعلمناها خاضعة لإعادة التقييم في كل لحظة ألم. يسوع يتحدّى تلاميذه في خوض رحلة التفكير والتقييم بما هو الأهم في كل ظرف. إنّها دعوة لتجديد أذهاننا في وقت الألم. يسوع لم يعط معادلة سهلة تُطبّق في كل الظروف، بل دعاهم لخوض رحلة اكتشاف الخبر السار وسط الألم، بعيدا عن العبارات المبتذلة و” الكليشهات”.
وتابعت قصاب: مِنَ اللافت في القصة، أنّها تحصل في بيت سمعان الابرص. يقول النص: “وَفِيمَا هُوَ فِي بَيْتِ عَنْيَا فِي بَيْتِ سِمْعَانَ الأَبْرَصِ”. لقد اعتدنا التركيز في قراءتنا للقصة على مشهد يسوع والمرأة، وغاب عنا مشهد يسوع وسمعان الأبرص. لقد دخل يسوع بيت أبرص. قراءة القصة من خلال عيون سمعان تكشف لنا موقفًا غريبًا وجريئًا من يسوع. لقد كان مريض البرص أنذاك، شخصًا منبوذًا من المجتمع. لا يختلط مع الناس، حتى أنه كان يصرخ” أبرص أبرص” كي لا يقترب أحد منه. لقد كان هذا المرض مُدمِّرًا للفرد وللعلاقات الإنسانية، حتى بات يطلق اسم الأبرص على كل من أصيب بهذا المرض، كما هي الحال مع سمعان الأبرص. لعل واقعنا اليوم يشبه إلى حد بعيد واقع مرض البرص أنذاك. وصعوبة تعرّض الناس لمرض الكورونا كوفيد19، يكمن ليس فقط في الهم الجسدي أو الصحي، أو الخوف من الموت، لكن الخوف من التنمر والرفض والعزلة. نسمع يوميًا عن أشخاص رُفضوا من جيرانهم بسبب مرضهم. وهذا مؤلم ومهين لكل مريض كورونا. العالم يلفّه الخوف من الآخر، وكلّ يرفع جدران وحواجز حوله مع الآخر.
وأستطردت "قصاب"، أن يدخل يسوع بيت سمعان هو أن يُعيد لسمعان كرامته وقبوله في المجتمع. وإن كان يسوع قد شفاه (كما يقول بعض المفسرين)، لكنّ يسوع كان يشفي المجتمع من مرض إطلاق الأحكام، وعدم القبول والخوف من الاخر، حتى أقرب المقربين. لقد كان سمعان الأبرص الأكثر فرحًا في القصة، وهو الذي تمتّع بقارورة طيب يسوع التي سكبها على حياته. اهتمّ أن يزوره ليضمّه للمجتمع، ويعطيه قيمة.
وكشفت قصاب على التحدي التي أصبح أمامنا في خدمتنا، بعد الكورونا، هو كيف نعاود بناء علاقاتنا الإنسانية ونهدم الاسوار التي بنيناها، ونهتم بذواتنا وعائلاتنا ايضًا، ونتمع بثقافتنا الشرقية من جديد وزحمة الشوارع والاتصال الحر. ولعلّ أصعب المهام هي الأهتمام بالمرضى الذين عُزلوا عن المجتمع. من أصعب ما سمعته خلال هذه الفترة عن أهل طلبوا رؤية أولادهم وهم على فراش الموت لكن الاولاد رفضوا الحضور خوفًا على حياتهم.
وأضافت قصاب، صعوبة ما نواجهه اليوم، هو سقوط أعمدة القيم التي جهدت الكنيسة على بنائها عبر العصور. فبعد التركيز على القرب من الأخر، تعلمنا اليوم تبني ثقافة البعد عن الأخر. اعتدنا أن نختم خدماتنا التعبدية بعبارة اذهبوا إلى العالم، بتنا اليوم نفضل عبارة ابقوا في الداخل. تعلّمنا كيف نحب قريبنا بالابتعاد عنه، وبتنا غير معجبين بالسامري الصالح الذي خاطر بحياته.
واختتمت قصاب، يلفّ العالم اليوم ثقافة الخوف، وبالأخصّ، الخوف من الأخر، لا شك أنّ الاحتياط واجب وأساسي، والوعي مطلوب اليوم. مصدر ألمنا اليوم يكمن بأنّنا، نحن ككنيسة، في مرحلة إعادة التشكيل، إعادة اكتشاف الخبر السار بمعادلات اصعب وبطرق جديدة. بأننا لا نجد الإجابات السهلة بل نكتشف من جديد كيف نشبه سيدنا.اليوم ألمنا مختلف، ليس بسبب غياب دواء الكورونا أو الحجر، بل غياب الاجوبة السهلة. في هذه الرحلة نكتشف قارورة يسوع، وأنّ اليوم ليس وقت التمسك بقارورة الطيب، بل لنضعها عند أرجل القدير الذي قبل سمعان بمرضه. ما هو الأهم في وقت الألم يبقى سؤالًا صعبًا؟
المصدر : البوابة نيوز